الدكتور أحمد عبد الدايم يكتب: ما بعد التخرج

عام ما بعد التخرج (١٩٩٠- ١٩٩١). فى هذا العام تعرضت لتجربتين متناقضتين:
التجربة الأولى: دخولى الجيش..
حيث قدمت نفسى للتجنيد، ودخلت الخدمة العسكرية جنديا.
تدربنا فى معسكرات الهايكستب لمدة ثلاثة أشهر، ثم انتقلنا لكتائبنا فى الكيلو 34 طريق مصر اسماعيلية الصحراوى.
وتسكنت فى الكتيبة الثامنة مشاة ميكانيكى من اللواء 120 الفرقة الثانية المنطقة المركزية.
قضيت تدريباتى مستمتعا بها رغم صعوبتها فى البداية، لكننى حرصت على التفوق فيها.
ومن داخل الهايكستب دخلت السرية الرياضية سباقات جرى 1500 متر.
وكنا نتمرن فى الهايكستب، ونتسابق فى نادى الجزيرة الرياضى.
قضينا فترة الثلاثة أشهر وانتقلنا إلى كتائبنا.
وبعد مدة طلبوا منا ان نستعد لمغادرة الكتيبة للالتحاق بلواء جديد يتم تشكيله فى الاسكندرية.
لكن التحرك كان بهدف إلحاقنا بحرب الخليج التى اندلعت فى نفس العام الذى التحقنا فيه بالجيش.
فحينما جاءوا بأعداد كبيرة منا، وأجلسونا فى “ميز” الفرقة الرئيسى، أحضروا لنا شيخا ليحدثنا فى الصلاة والصيام.
ولما كان غالبيتنا من المؤهلات العليا، استفسر من سبقونا للمكان عما يحدث، فسرت شائعات بيننا بأن وجهتنا الرئيسية هى الكويت والمشاركة فى حرب الخليج، وأن ما قيل فى الطريق حول الاسكندرية لم يكن صحيحا.
خرج أربعة عساكر وتحدثوا بما كنا نود أن نقوله فعلا.
ذكروا للشيخ بأنه يمكنهم تعليمه الصلاة والصيام بأحسن مما يقول، لكنهم طلبوا منه أن يدخل فى الموضوع مباشرة، وأن يوجد لهم فتوى بأنه فى حالة مقتلهم فى هذه الحرب هل يعدون شهداء أم لا؟
لم يستطع الشيخ الذى أتوا به أن يشفى غليلا أو يبرئ عليلا مما طلب منه، بل تلعثم، فاكتشف ما كان مخفيا عنا.
هنا حدثت ثورة فى “الميز”، وتم محاصرتنا من قبل بقية جنود الفرقة.
لكنهم بعد ساعة من الهرج والمرج، طلبوا منا العودة إلى ثكناتنا الرئيسية.
وفى الطريق كدرونا، كل بطريقته وإنسانيته زحفا على البطون وجريا وركضا ومنعا من الأكل والشرب لعدة ساعات.
وبعدما وصلنا سالمين لكتائبنا تم تغيرنا بجنود من الدبلومات الفنية، بدلا من هؤلاء الذين يستفسرون ويزعجون القيادات.
المهم أننى قضيت جيشى بعد عام، وخرجت لعالم استعد فيه للدراسات العليا، وأحاول أن أجد وظيفة لنفسى.
فوجدت وظيفة مدرس لغة انجليزية بالأجر بمدرسة الرزيقات قبلى الاعدادية.
وشهدت لحظة انتقالها من قرية الديمقراط إلى مقرها الحالى بالقرية، وبالتالى أفخر بأنني كنت من جيل المؤسسين لهذه المدرسة.
وما زلت أفخر بتلاميذى وزملائى وأصدقائى فيها بقيادة مديرها فتحى ميرغنى، وبصحبة الأخوة د.عبدالرؤف العدب ويوسف أبوبكر والشافعى عبدالرحمن ومحمود مأمون وعبدالنافع عبدالبارى ومحمد الضوى وأولاد شعلان ويوسف سلطان وأحمد النوبى وغيرهم الكثير.
وبأننى شاركت فى تعليم جيل مميز أصبحوا مبرزين الآن فى شتى النواحى، وما زالوا يغمروننى بالمحبة والتقدير والاحترام، فللجميع أرسل القبلات والورود وخالص المحبة.
وفى هذا العام، عام 1990، حدثت انتخابات مجلس الشعب طبقا للنظام الفردى.
وكادت القرية والعائلة أن تحسم مقعد العمال بسهولة لصالح عمنا أبوالحجاج بسطاوى الذى رشحه الحزب الوطنى على المقعد حينها.
ووقفت القرية والقرى المجاورة على قلب رجل واحد، ولولا أنه وافق على فتح صندوقين وصلا بعد موعدهما، لكان الرجل عضوا فى البرلمان بسهولة.
فقد كانت كل النتائج داخل خيمة الفرز تصب فى صالحه.
لكن شاءت الأقدار ألا يكون هذين الصندوقين فى مصلحته.
أعتقد أن خسارة الرجل شكلت حزنا كبيرا لكل أهالى القرية وليس للعائلة وحدها.
فقد بذل الجميع جهودا جبارة رغم صعوبة المعركة الكبيرة التى خاضوها.
كنت حزينا لأننى فى الجيش، ولم أشهد تلك الوقائع المهمة فى تاريخ قريتنا وعائلتنا إلا فى نهايتها.
أعتقد أن هذه المعركة الانتخابية كانت أهم معركة فى حياة القرية طبقا للنظام الفردى، وهو ما يفسر حالة الحزن الكبيرة على نتيجتها، أحسنت العائلة تحالفاتها الانتخابية وأدارتها بحكمة واقتدار، لكن الله أراد شيئا آخر..
التجربة الثانية، التي مرت بي في هذا العام، كانت تجربة التعرف على التيارات الاسلامية.
أعتقد أن الفترة التى قضيتها فى التعرف على تيار الإسلام السياسى لكفيلة بأن تبعد عنى كل الشبهات التى روجها بعض ضعاف النفوس وكارهى أنفسهم.
فلم تدم فترة تعرفى فى أقصى مدة لها، أكثر من ستة أشهر، وفى أقل تقدير أربعة أشهر.
فقد كنت محبطا من تجربة حبى الفاشلة التى أوجعتنى، وكذا يائسا من عدم حصولى على المركز الأول والتعيين كمعيد فى الجامعة، وابحث عن ملجأ ينقذنى مما أنا فيه.
حيث دخلت الجيش وخرجت منه ولم أشف من جراحاتى بعد، ولم استطع أن أتبين طريقى إلى أين؟.
وجدت من أبناء التيار الاسلامى كل المساعدة، خصوصا أبناء الجماعة الاسلامية.
فهم موجودون حولى فى المصلى المجاور وفى الطريق، وفيهم الأصدقاء والأقارب، أمثال ابن خالى حسن أبوالحج وابن عمى الشيخ عبدالسلام على حسن والشيخ امبابى والشيخ عادل تهامى والشيخ صالح أبوكامل والشيخ عبدالله وغيرهم.
وجدتهم لا يتحدثون إلا فى الدين، ويعلمون الصلاة وقراءة القرآن ويقيمون الليل.
وكلها أشياء لا تدعو إلى الخوف منهم أو الابتعاد عنهم.
كنت فى حاجة بأن اقترب من الله ليدلنى على الصواب من الخطأ، ويهدينى إلى الطريق القويم.
فكان هؤلاء الأقارب والأصدقاء عونا لى فى فهم مسائل كثيرة تتعلق بالدين.
وفضلا عن تعاونهم وترابطهم، كانوا بالفعل بعيدين عن التطرف بمعناه المعروف فيما بعد.
صحيح أن كثيرين منهم دخلوا المعتقل في وقت لاحق، لكننى لم اتقرب منهم بالدرجة التى تسمح لى بالتعرف على كل ما يقولونه أو يفعلونه.
كنت أحضر معهم قبل الصلوات وبعدها، وأحيانا العيد وصلاة التراويح.
اكتسبت مهارات جديدة فى الفكر، وفى فهم الحديث والعقيدة والتوحيد وقراءة القرآن.
ذهبت معهم لمسجدهم فى أرمنت، مسجد الرحمن، وسمعت خطبهم، التى دارت حول السيرة النبوية وتفسير القرآن وتعليم العبادات.
وأعطونى بعضا من أدبياتهم الدينية والأوراد والأذكار.
وفى النهاية لعبت حاسة التاريخ عندى دورها، فتناقشنا حول الحاكمية التى يتميزون فيها عن الاخوان المسلمين، كونهم يسعون للتغيير من أعلى، أى من رأس النظام، عكس الاخوان الذين يسعون للتغيير من أسفل، لخلق جماهير تطيح بالنظام.
وكان غالبيتهم لا يعرفون شيئا عن هذا الذى يقال، اللهم إلا قياداتهم، أمثال الشيخ صالح كامل وآخرين.
اجتمع بنا الشيخ صالح مرة أو ثلاث مرات فى دروس تعليمية فى فكرهم ومنهجهم.
ولم أخش تلك الدروس، لأن الحضور فى النهاية هم أقاربى وأصدقائى وأبناء عمومتى.
وكان حسى كقارئ للتاريخ، يدفعنى للفضول والتعرف على التجربة من داخلها، وألا اكتفى كما يفعل الكثيرين بالحديث عن التجربة من خارجها.
اعتقد أن فضول المؤرخ قد لعب دورا مهما فى توجيهى للتعرف على هذا التيار وفهم خلافاته مع التيارات الأخرى.
وأعتقد أن ما حدث خلال الأربعة أشهر قد وسع من فهمى، وأفادنى فى قراءة كل حركات الاسلام السياسى عبر التاريخ المعاصر.
واعتبر أن ما حدث كان لمهمة لا يعلمها إلا الذى هيأ لها، وأنى كمؤرخ، أفخر بأننى تعرفت على كل التجارب الفكرية والتنظيمات السياسية من داخلها.
فكنت يساريا مع اليسار، ولم أعش فى جلبابهم، وكنت يمينيا مع اليمين فتعرفت على الاسلاميين، ولم ألبس عباءتهم.
ودخلت حزب الحكومة، الحزب الوطنى، بهدف التعرف على كل الاتجاهات التى تدور فى البلد، ولم أكن وصوليا.
وهنا تكون تجربتى قد اكتملت سياسيا، بالتعرف على اليسار واليمين والوسط والسلطة من الداخل.
وبطبيعة الحال تعارضت قراءاتى التاريخية عن المجالات السابقة بواقعها السياسى فى بلدنا.
أعتقد أننى كنت أعلم نفسى بنفسى كمؤرخ قبل أن احظى بالتعليم الاحترافي فيما بعد.
واعتقد أن بعض مرشدى أمن الدولة الذين حكموا على بأننى أحد هؤلاء الاسلاميين، لو علموا حقيقة حالى حينها ما نطقوا بكلمة واحدة فى حقى، ولاعتذروا عما جنوه من مضايقتى.
فقد كانت أى صورة تلتقط من داخل مسجد الرحمن هذا، لكفيلة بأن تصنفك فى فئة، وتضعك فى قالب معين.
ومع أننى لم أذهب إلى هذا المسجد سوى ثلاث مرات أو أربع فقط، إلا أننى اعتقد أن القائمين على جمع هذه التحريات هم من أدنى الناس تعليما ومعرفة، وغالبيتهم دبلومات أو مرشدين أميين لا يعرفون طبيعة الناس ولا خلفياتهم، ولا نوعية الحديث الذى يتحدثون به.
المهم أنهم صورنى بلحيتى فى هذه الأربعة أشهر وقدموها للأمن.
ورغم أن هذه اللحية قد ارتبطت بحالة فشلى فى تجربة الحب، وقمت بحلاقتها بعد أربعة أشهر فقط من نموها، إلا أن ما سجله هؤلاء البلهاء من مرشدى الأمن كانوا يعتبرونه قرينة.
لكنهم لم يستطيعوا تحويله لسجل ثابت يمكن أن يستغله مرضى النفوس وقليلى الحيلة ضدى، مثلما يفعل بعضهم الآن.
حيث قمت برفع قضية فى مجلس الدولة، حينما أذتنى تلك التحريات وأبعدتنى عن التدريس المدرسى، فقضت تلك المحكمة بحكم ناجز بأن كل ما قيل وسجلوه فى تحرياتهم، كان كلاما مرسلا، وأنه لا سند ولا دليل يدعمه.
فرجعت للتدريس ومارست مهنتى وتفوقت فيها.
ولو كان لدى أجهزة أمننا وعى لما كلفونى كل هذا العناء والجهد لأثبت براءتى مما ألصقوه بى.
لكنهم عادوا إلى رشدهم فيما بعد وقدموا تقاريرى الحقيقية التى تثبت أننى بعيد جدا عن هذا التيار، وأن علاقتى بهم لم تتجاوز المدة التى ذكرتها.
الأمر الذى أتاح لى التعيين فى الجامعة فيما بعد.
فلو كنت مصنفا عندهم ضمن هذا الفريق لما أتاحوا لى فرصة التعيين فى الجامعة من الأساس.
فداخل هذا الجهاز أيضا رجال من ذهب، قدموا لى التهنئة بالتعيين فى الجامعة قبل ان أتسلمه رسميا.
وأعتقد أن ما وصفته فى لقطتى السابقة حول حب فى الجامعة لهو الدليل على خلفية هذه التقلبات وأسبابها.
ولو علموا أن المؤرخين هم أبعد ما يكونون عن الالتحاق بهذه التيارات أو غيرها، لارتاح بالهم وأراحوا، ووفروا على غيرهم الجهد والتعب.
فهل ستة أشهر للتعارف، وبسبب الظروف، تصلح لاطلاق الأحكام على الناس؟
وهل لا يستطيع الفرد أن يتعرف على فكر ما ويتركه، دون أن يتحمل عبئه؟
وهل تجارب الشباب الحياتية الفاشلة يمكنها أن تظل حاكمة لمستقبلهم؟
أترك هذا الأمر لمن يهمه الأمر للعلاج والاصلاح، وفهم طبيعة الناس، ومعرفة جذور المسائل.
وأقول ذلك للذين يتصيدون الأخطاء ويبحثون عن الأذى فى أوراق الناس وسجلاتهم، بأننى لم أنتم لأى حزب سياسى أبدا.
والحزب الذى انتميت له يوما كان هو الحزب الوطنى الديمقراطى.
ووثائق الحزب تشير بأن كود عضويتى هو رقم 21250080009 بتاريخ 12/3/2003 وحدة حزبية الرزيقات قبلى مركز أرمنت محافظة قنا، ولا أعرف أننى انتميت يوما لغيره.
اعتقد أن التجارب فى عمر الشباب ما قبل ٢٢ عاما تصقل الخبرة وتنميها، وكذا مهمة فى التعرف على الصواب من الخطأ.
فالتجربة فى حياة أى إنسان هى بيت الخبرة الرئيسى ومعين لازم لصقله.
فعندما انتهيت من الجيش تقدمت بعدها بعام للدراسات العليا بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية جامعة القاهرة قسم التاريخ.
أقول هذا الكلام قاصدا هؤلاء المرضى وخسيسى النفس الذين يتصيدون فى الماء العكر، فيريدون تعطيلك عن منصب أو تقدم بترديد هذا الغى فيما بعد.
والسؤال لهؤلاء الحمقى:
لم الحكم على تجربة واحدة بأنها الاطار المحدد لتوجه الانسان وخطه العام؟
فأنا على سبيل المثال تعرفت على اليسار واليمين والوسط قبل سن الـ٢٢ عاما، فهل يصلح اختيار احداها لتكون عنوانا لتوجهاتى كلها واستدعائها من سياقها التاريخى لخدمة أغراض آنية؟
وهل ابن الـ٢٢ عاما بذات الخبرة لابن الـ١٨ لابن الخمسين عاما؟
فتجارب الشباب فى كل البلدان مقرونة بالاستكشاف والبحث والاختبار، وينتقل فيها الشاب أحيانا من مجموعة شبابية لأخرى بحثا عن أصدقاء جدد أو هروبا من مثبطين وسلبيين.
وكما يقول المثل، من كانت بدايته محرقة انتهت حياته مشرقة.
وهذا يعنى أن التجريب والاقدام والإحجام كله مرتبط بطول فترة تجربة هذا التيار أو قصرها.
فإذا طالت فترته فى اتجاه معين، فهذا يعنى أنه توصل لقناعة بهذا الاتجاه.
وإذا كانت التجربة بكاملها لا تتعدى الأربعة أشهر فلا يصلح تعميمها على خط الانسان وتوجهاته.
والحمد لله أننى جربت كل الاتجاهات فى فترة باكرة فاكسبتنى نضجا ومعرفة أقوى بكثير مما مر به أقرانى.
ودخلت مرحلة الاحتراف فى دراسة التاريخ وأنا على وعى كامل بالواقع السياسى المحيط.
ومازلت أذكر بوضوح أننى حينما حضرت فى البداية للقاهرة كنت أحضر كل ما يتعلق بندوات حزب التجمع مع الاستاذ رفعت أحد طلاب اليسار القارئين جيدا فى الفكر اليسارى وأدبياته.
وكان يصحبنى تقريبا فى معظم اللقاءات الثقافية الأخرى، وغالبيتها لا تبتعد كثيرا عن هذا التوجه.
حيث عاد اليسار بقوة بتوجيه من نظام مبارك لضرب التيارات الاسلامية.
كنت أشعر أن مبارك يعيد التاريخ لكن بشكل عكسى لما بدأه الرئيس السادات.
فقد سبقه أنور السادات فى ضرب اليسار باليمين، فجاء مبارك مكررا التجربة بضرب اليمين باليسار.
جذبتى نخبة اليسار الثقافية فى القاهرة، فأضافوا عمقا ثقافيا ساعد فى تكوينى الثقافى، وفهم طبيعة المادية التاريخية فيما بعد.
وهذا حديث سيطول شرحه حينما اتحدث عن مرحلة الاحتراف.