مساحة للاختلاف

الدكتور أحمد عبد الدايم يكتب: الجامعة ونشاطى السياسي

حينما دخلنا الجامعة عام 1986 كانت هذه السنة مليئة بالأحداث العامة التى انعكست آثارها على عملية التقييد داخل الجامعة.

حيث ثار الأمن المركزي فى ذات السنة على سياسات مبارك.

وبدأت مظاهراتهم فئوية ثم قلبت إلى اتجاهات أخرى.

على المستوى الشخصى لم نشعر كثيرا بهذا التضييق إلا حينما ظهر بعض الإسلاميين داخل الجامعة يعترضون على حفلة غناء ورقص أعلن عنها أحد أساتذة كلية التربية.

فوجدت أن عددا قليلا من طلاب الكلية بقيادة قريب لي فى سنته الأخيرة، يقومون بتقطيع الإعلان وتمزيقه إربا إربا والدكتور لم يستطع أن يتحدث بكلمة.

كان هذا أول مشهد لي مع هذا الاحتكاك الذى لا أعرف تفاصيله.

غير أننى أعرف أن هذا القريب ظل فى السنة الأخيرة عدة سنوات بسبب مواقفه السياسية وليس لكونه قد قام بتهديد الأستاذ أو تمزيق إعلانه.

أعتقد أن أسبابا شخصية كانت تقف وراء هذا الحادث، ولم يكن بسبب إباحية الاعلان وصوره العارية.

فقد كان هذا الأستاذ يتعمد إرسابه فى مادته مع أنه انتهى من كل المواد الأخرى ونجح فيها.

من ناحية أخرى، لم يكن موقف طلاب الجامعة تجاه مبارك، بما فيهم أنا، موقفا سلبيا.

حيث كان لا يزال محبوبا من قبل الناس.

زارنا الرجل يوما فى قنا، فحمله الناس على الأعناق.

وقف له الناس فى الشوارع بداية من محطة السكة الحديد انتهاء بكلية التربية.

وكان يجلس فى عربة مكشوفة والناس تحييه من أعلى العمائر وداخلها.

كان يوما مشهودا فى حياة قنا وسكانها.

ونزل مقر الجامعة القديم فى استراحة فاروق وخطب فى شيوخ قنا وبعض أساتذة جامعتها وقياداتها.

أعتقد أن هذا الموقف الايجابى نابع من بصمات الرجل المتعددة فى إدارة علاقات مصر الخارجية حينها، برجوع مصر للحضن العروبى وجامعة الدول العربية.

فقد أعاد العلاقات العربية لطببعتها، ونجح فى تسويق سياسة مصر الخارجية بتاريخها، وعلى واقع رسالتها الحضارية.

وحرص على تشكيل السياسات والمواقف المصرية فى إطار استماعه لقوى وطنية مختلفة.

وزاوج فى المعالجات بين المنهج العلمى والبراجماتية السياسية.

وجدير بالذكر، بأن أكثر قضية كانت تشغلنا فى الجامعة هى قضية فلسطين.

وقد نظمنا أكثر من فعالية فى فرع الجامعة الجديدة على حافة الصحراء، نعلن فيها دعمنا للقضية وللشعب الفلسطينى الشقيق.

وعلى المستوى الشخصى كتبت أكثر من قصيدة شعرية حولها، نشرت فى مجلة المدينة الجامعية، وفى مجلة إحدى الأسر التى كنت رئيس لجنتها الثقافية.

وكان أكثر ما يشغلنا أيضا هو قضية الطوارئ المستمرة على طول الخط، ولم نعرف من أين تسرب لنا هذا الأمر.

لا أعتقد أننا كشباب كنا نعرف ماهية الطوارئ ومضامينها لكن ربما تكون الأحزاب حاضرة فيه من بعيد، وبالمقابل كان الحزب الوطني يرسخ قواعده بشدة.

كان ما يزعجنا هو قضية الحريات والتضييق على الكلام، أيا كان نوعها، إذا تعلق الأمر بتلك المسألة.

وخير مثال لذلك هو ما حدث لنا خلال الإضراب الذى نظمناه فى المدينة الجامعية فى السنة الرابعة.

وخير مثال على ذلك تركيز الحزب على صناعة قيادات حزبية داخل الجامعة.

ومع أن غالبيتنا لم يكن له انتماء سياسى إلا أن تنظيم إضراب عن الطعام اعتراضا على أمور خاصة بطبيعة الغذاء المقدم لنا فى المدينة شكل منحنى جديد فى التعرف على ذهنية القيادات الأمنية في تلك الفترة.

فكان توقيت تقديم الطعام وسوء طهيه هو المحرك الرئيسي لتنظيم الإضراب.

لكن ترتيبه جعلنا ندرك كيف يتم تحوير المسارات عن طبيعتها.

كنت أحد الأفراد الرئيسيين فى تنظيم هذا الإضراب، وكنت فى السنة الرابعة والأخيرة من الجامعة.

نظمنا هذا الإضراب فى مدينة سيدى عبدالرحيم القنائى فانتقل على الفور إلى المدينة الجامعية المجاورة لمعبر الشباب.

كانت مهمتنا تتمثل فى جمع بونات الطعام من كل الطلاب، إفطار وغذاء وعشاء.

المدهش أن الطلاب كانوا يستجيبون لطلباتنا ويعطوننا بوناتهم، وينزلون إلى وسط المدينة ليأتوا بغذائهم وعشائهم.

وبالفعل نجح الإضراب عن الطعام، وامتنعنا عن الأكل داخل مطعم المدينة الجامعية ساعة الغذاء.

فانتقل الخبر بسرعة النار فى الهشيم.

حيث وصل بعض أفراد أمن الدولة على الليل، وحوصوت المدينة الجامعية التى كنا فيها.

وبدأنا نتعرف على العملاء الذين قدموا مجموعة أسماء للأمن، كنت أنا أحد هذه الأسماء التى أرسلت للأمن.

لم ننشغل بما قدم من أسماء، بقدر ما كان يشغلنا أمر إنجاح الإضراب فى الايام التالية.

ونجحنا أيضا فى مقاطعة طعام الليل وصباح اليوم التالى.

وهكذا بدأت التداعيات، وبدأنا نتلقى طلبات بالتحقيق معنا حول الموضوع.

أطلقنا على أحد العملاء اسم على خنفس الذى باع العرابيون للإنجليز، فصار لقبا يلاحقة حتى تخرجه.

لم نكن نتوقع أن مجرد اعتراضنا على سياسة المطعم وطريقته فى تقديم الطعام ان يتحول الى موضوع كبير، يتدخل فيه الأمن.

حدثت تراجعات من البعض بعد سماعهم التهديد والوعيد.

وحدث اختراق فى صفوف الطلاب.

جاءنى أحد قيادات الإضراب ليسلمنى بونات الطلاب، معلنا بأنه لا يستطيع تحمل التكلفة فى مستقبله.

وحذرنى بأن الامر ينطبق علي، لكون ترتيبى كان الأول فى السنة الثالثة من قسم التاريخ، وأن وظيفة معيد التى تنتظرنى ستضيع فى لحظة.

لا أخفى سرًا بأن الخوف قد تسرب إلى نفسى.

خصوصا وأن أمن الكلية بدأ يستدعى بعضنا، وأن من كانت لهم علاقة بالأمن لعبوا بالجميع.

أحدهم وضع أسماء منافسيه، وأحدهم قدم من يكرههم.

لم أكن اتخيل أن إضرابا ينظمه طلابا حول أكلهم يسبب هذا الأرق والضيق، ويذهب ليؤثر على مستقبلنا.

المهم أن الإضراب نجح عبر يومين، محدثا تحسينات لم نكن نتوقعها فى الطعام الذى تقدمه مطابخ المدينة الجامعية.

إحدى طرائف هذا الاضراب أن أحد الطلاب وقف لنا فى منتصف السلم فى الدور الثالث، حينما طلبنا منه أن يسلم لنا بوناته، قائلا بأنه مستعد بأن يذهب معنا إلى أبعد مما نتصور، حتى لو طلبنا منه قتل مبارك نفسه، لكنه من الصعب ان يتقبل فكرة ان يمنعه احد من نزول المطعم وتناول وجباته.

اكتشفنا مدى خفة العقول التى تحرك الأمور، ومدى تفاهة المسائل التى يتحركون من أجلها.

لم أكن اتخيل أن يستدعينى الأمن فى مبناه القديم للحديث حول ما حدث.

فأجبت الرجل بكل بساطة يا افندم ليس لنا أى انتماءات سياسية واضرابنا عن الطعام كان قرصة ودن للطهاة ليحسنوا من ادائهم، ولم يكن موجها للنظام أو السلطة.

ضحك الضابط المسئول، واعتقد انه كان فى قرارة نفسه غير مقتنع بأن يتحرك بالاساس لتلك المسألة.

اعتقد ان تضامن مدينتى الطلاب فى الاضراب، جعلهم يخشون من تضامن مدينة البنات فيتطور الأمر بعدها إلى أبعد مما يتخيلون.

خصوصا وأن الطلاب كانوا يشيعون بأن الإضراب وصل الى كافة مدن أسيوط الجامعية التى كنا فرعا منها فى قنا.

اعتقد ان سريان هذه الشائعة هو الذى أجبر الأمن على التحرك بسرعة وإيقاف ما يجرى الترتيب له ومنعه فى بدايته.

أيضا تعرفنا فى المدينة على أفكار سياسية كثيرة، وكنت حينها اقرب لليسار منه لليمين.

كنت اشعر ان افكار حزب التجمع تجذبنى فى شقها الاجتماعى والاقتصادى. فى حين كانت الافكار الليبرالية لها جاذبية اكثر وخصوصية.

ولم تكن الحركة الاسلامية لها من القوة التى حصلت عليها فيما بعد.

فقد كانت أعدادهم محدودة، وكانت حركتهم مقيدة، وتجمعاتهم مراقبة.

وكان الوافدون على قنا، خصوصا من ابناء الدقهلية، أكثر وعيا بالسياسة ومفرداتها منا أبناء الصعيد.

كانوا يعرفون أمورا كثيرة لا نعرفها نحن ابناء المكان.

ولهذا كنت ملتصقا بهم، احاول ان اتعرف منهم على ما لا تقوله الصحف والمجلات، وما لا نسمعه من وكالات الانباء ونشرات الاخبار.

تشعر ان هؤلاء الشباب يملكون قوة ما تحركهم، وتقف الى جانبهم وتدعمهم.

بل ان حصولهم جميعا على المركز الأول ثم التعيين فى وظائف معيدين بهذا العدد الكبير، وفى سنة واحدة، ليدلل بأن هؤلاء الشباب لديهم وعى متكامل وقوة تقف خلفهم.

كان اقربائهم من الأساتذة يأتون بهم ليحصلوا على أعلى الدرجات فيتم تعينهم بسهولة.

وأعتقد أن أحدا لم يكن منتبها لهذا الذى يحدث. وهذا لا يمنع أن عددا كبيرا منهم كان متفوقا.

كان لا يعجبنا كشباب خضوع نظام مبارك للأمريكان، وكنا نتمنى أن يظهر موقفا يعبر فيه عن ندية بلدنا معهم.

كانت أفكار القومية العربية حية فى قلوبنا، وعشنا أجمل لحظاتنا باستعادتنا لعلاقاتنا العربية فى الفترة من 1987-1989.

كان حلم الوحدة يداعب جميع الطلاب ويدغدغ مشاعرهم. وكانت الوطنية متجذرة فى القلوب.

لم يعجبنا أيضا نظام الاستفتاء الذى يتم به اختيار الرئيس وكنا نتمنى أن يكون نظامنا ديمقراطيا على شاكلة امريكا.

كتبت قصيدة عام 1990 أى فى السنة الأخيرة لى فى الجامعة أرفض فيها طريقة المبايعة على نفس وزن قصيدة أمل دنقل.

قلت فى عنوانها لن أبايع حتى وإن بايعوك، معلنا رفضى لطريقة الاستفتاء التى تجرى.

ولم أكن انا بمفردى أو مجموعة قليلة تتبنى هذا الاتجاه.

كان تيارا جارفا داخل الجامعة ينادى بالديمقراطية وينهى نظام الاستفتاء عبر مجلس الشعب.

كنا نتمنى لبلدنا أن تكون هى الأولى فى كل شيىء.

وكذا حال الكثير من الشباب الجامعى حينها.

لم نبتعد عن قضايا الوطن يوما، ولم نكن نسعى لمناصب داخل الاتحادات الطلابية أو غيرها.

رغم أننى كنت عضو اللجنة الثقافية داخل اتحاد كلية الآداب فى إحدى السنوات.

ورغم نشاطى السياسى إلا أننى لم أنس النشاط الثقافى أبدا، خاصة أننى كنت مسؤولا عن مجلة المدينة الجامعية ومجلة إحدى الأسر الجامعية ومجلة كلية الآداب.

وكانت هذه المجلات فى غالبها مجلات حائط، ولم تتحول إلى شكل ورقى إلا أعدادا بعينها لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.

وكان كثير من شباب الجامعة مبرزين جدا فى تلك الأنشطة.

اظهر المزيد

الدكتور أحمد عبد الدايم

أ.د. أحمد عبدالدايم محمد حسين.. أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الدراسات الافريقية العليا جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

يسعدنا مشاركاتك

زر الذهاب إلى الأعلى
« Browse the site in your preferred language »
%d مدونون معجبون بهذه: