الدكتور أحمد عبد الدايم يكتب عن: مولد سيدى عبدالرحيم القنائى

علاقة الإنسان بالأماكن قد تكون علاقة إيجابية أحايين، وسلبية أحيانا.
لكن والحمد لله كانت علاقتى بكل أماكن قنا إيجابية على طول الخط. ربما للسحر الخاص الذى تمتلكه قنا خاصة بالليل.
وربما لطبيعتها وقوتها على الامتلاك والأسر.
فقد سميت قنا من اقتنائها لنهر النيل.
وبالتالى كنت أعتقد أن القريتين اللتين عشت بهما، سواء الرزيقات أو الرياينة المجاورتين لبعضهما، هما السبب الحقيقى لهذا القنى والقوة المعروفة عن قنا.
لأن النيل عند هاتين القريتين يتحول عن مساره تماما إلى مسار جديد ليعود عند مدينة قنا ويعدل مساره الذى كان عليه سابقا.
وأن ثنية النيل تبدأ من عند قريتنا الرزيقات لتكتمل فى قرية الرياينة، وكأن الله خلق هاتين القريتين قويتين لا يستطيع النيل بجبروته أن ينخر لنفسه مكانا لنفسه بينهما.
كنت أحب جغرافية قنا لأن الله خلقها على عينه، وكذا اوجد ساكنيها من قوة وبأس لأمر يعلمه هو نفسه.
حينما تدخل الى مدينة قنا من جهة الغرب، إذا ما كنت قادما من مركز ارمنت غرب النيل، ستجد نفسك تدخل إلى مدينة قنا عبر كوبرى قنا أو ما يسمى أحيانا بكوبرى دندرة على النيل.
وعلى بعد أمتار منه ستجد نفسك أمام مدينة سهلة الوصول الى بطنها فى دقائق معدودات.
فحينما تصل إلى معبر الشباب ستجد نفسك مخيرا ما بين الاستمرار إلى قلب المدينة من ناحية، أو تدخل من ناحية أخرى إلى المدينة الجامعية التى تقع قرب كلية الهندسة الحالية، أو ما كان مقرا لكلية التربية على أيامنا.
وبالتالى تجد نفسك مخيرا فى السير ما بين شوارع ثلاث؛ أحدهما يقودك إلى مستشفى الحميات والصدر والكنيسة ونادى الضباط والسينما الجديدة، وينتهى بك إلى مقر المحافظة القديم ومديرية التربية والتعليم.
وهناك شارع المرور الذى يتجه بك من باب كلية الهندسة من جهة استراحة المعيدين إلى الجراج إلى مسجد التحرير وميدان الساعة إلى بنزايون.
وثالث يقودك إلى نادى الشبان المسلمين ومجمع المدارس ومدرسة عبدالمنعم رياض ويدخل بك إلى الداخل، ليخرج بك من الجهة الأخرى إلى شارع محطة السكة الحديد.
وبالتالى يمكنك عبر الشوارع الثلاث، أن تذهب إلى أى مكان تريده فى قنا دون صعوبة.
خاصة، وأن هذه الشوارع الطولية، تقطعها شوارع عرضية تقودك جميعها إلى شارع المحطة وترعة الكلابية وطريق القاهرة أسوان الزراعى.
لتجد نفسك من الجهة الأخرى فى ميدان سيدى عبدالرحيم القنائى، لتواصل بعدها الرحلة عبر طريق مصنع الغزل جهة المقابر، وباتجاه المدينة الجامعية والشادر ومقام النبى شعيشع وإدارة التجنيد العسكرى ومنطقة الشئون، لتكمل رحلتك بعدها إلى مقر جامعة جنوب الوادى فى مقدمة صحراء البحر الأحمر.
وبالتالى كانت قنا بالنسبة لنا مدينة سهلة ميسرة لا تجد فيها مشاكل كثيرة، يمكن أن تعطل طريقك أيا كان اتجاهك.
ولا يمكنك أن تتوه فيها أبدا.
فالنيل حاكم لها من جهة الغرب، ومقر الجامعة حاكم لها من جهة الشرق.
وبطبيعة الحال لا يمكنك أن تعيش فى قنا لمدة أربع سنوات ولا تتعرف على طبيعتها.
فهناك شوارع وأماكن داخلها كنا نحب أن نمشى بها، أو نذهب إليها مترجلين، كميدان الساعة وبنزايون وشارع الجمهورية وشارع التحرير و٢٦ يوليو وشارع الشبان المسلمين وشارع مكرم عبيد أو ما بات يعرف بشارع الدكاترة وشارع سفينة وشارع النحال والمحطة وغيرها.
كنا نستمتع بأن نرى كورنيش النيل، ونجلس فى نادى البحر، ونمر عبر شارع الزبيدى والشيخ العظيمى والقرشى والمغربى والقرافى وغيرها.
وكذا نستمتع حينما نرى منطقة الشنهورية ومنشية النقيب والمنشية البحرية وستاد قنا الرياضى ومدينة العمال وطريق الجامعة وشارع السجن الحربى والحميدات والسبع بنات ومصنع المكرونة ومساكن عثمان والرى القديم وشارع الصهريج وشارع الأقصر.
كنا نفخر ببعض الشخصيات القناوية البارزة أمثال الشيخ أبوالوفا الشرقاوى، الذى كانت له مكاتبات مع الشيخ محمد عبده، وكان فى صحبة سعد زغلول عند زيارته لقنا سنة ١٩٢١.
وكنا نتعجب كيف لشاعري قنا، عبدالرحيم منصور وعبدالرحمن الأبنودى، هذه الملكات الكبيرة فى كتابة الشعر لكبار المطربين أمثال نجاة الصغيرة وورده وعبدالحليم حافظ وغيرهم.
وكنا نفاخر بأن أحمد فراج، طايع اول وزير خارجية مصرى خلال بدايات ثورة يوليو ينتمي لها.
وأن مكرم عبيد كانت أصوله المسيحية من محافظة قنا.
وأنها تذخر بالعديد من الشعراء والروائيين والفنانيين والقراء وغيرهم.
كان هناك عدد كبير من الأصدقاء تعرفت عليهم وعشت معهم كاخوة داخل المدينة أمثال خالد فتحى والطيب حسانى وحسن الحجازى قبلى وحجاج البحيرى وعبدالهادى الطودى وحاتم الارمنتى وبهاء الدشناوى ومحمود الصادق ومحمود النمساوي وحجاج ابوحفنى وعبدالرحيم ابوحفنى وعبدالرحيم الضوى وحجاج المحمودي ومحرم فؤاد وابراهيم الدقهلاوى وغيرهم الكثير والكثير.
أما بالنسبة لمولد سيدى عبدالرحيم القنائى، فكان لميدانه الكبير الذى يتحول فى النصف الأول من شعبان إلى قلعة تجارية وصوفية وثقافية سحر خاص وجمال يصعب أن تراه فى أى ميدان آخر.
كنا نذهب إليه فى تلك الفترة لنشترى منه ما نريد من ملابس وحلويات، وكل ما تحب أن تراه.
كنت أؤجل شراء بعض متطلباتى أحيانا لاستوفيها فى فترة الموسم.
كان ميدانا حافلا بكل ما فيه من التجارة والثقافة والذكر الصوفى والألعاب الرياضية والمدائح النبوية والمناظرات الثقافية والشعبية.
كان أحيانا يمثل صوتا إعلاميا لقبائل وعائلات تستعرض نفسها بقوة فى تلك الليالى، حيث كان يأتى صنوف مختلفة من البشر من كافة نواحى الوجه البحرى والقبلى ومن البدو ومن كافة الأصناف.
وكانت تأتي إليه كل صنوف المتصوفة من كافة الأماكن، لتستعرض كل طقوس المريدين والمحبين، وكان فيها من الخزعبلات أكثر مما يشتبك مع نصوص الشريعة ومبادئها.
كانت التبرك داخل المشهد يجرى على قدم وساق، وكان التقديس للمشايخ يرقى لمرتبة الجهل والخرافة والبدع.
وكان خلف الميدان مرماح الخيول العربية من كل صنوفها، وكان نقطة تجمع للراقصات والمغنيات ولاعبي السيرك، وكان بعض زملائنا لا يفارقون خيم الرقص والسيرك طيلة فترة المولد.
وكانت الليلة الختامية تشهد زحاما فوق المألوف، من شيوخ الطرق وسادتها.
وكانت ملامح الانشغال على الناس تبدو واضحة، ولا نحتاج الى تفسير أو شرح، وكان أهالى قرى قنا وضواحيها من أبرز القوة الشرائية فى هذا الموسم، بحيث يأتون زرافات وجماعات من الحجيرات والشيخ عيسى والدير وأولاد عمرو والطويرات والترامسة والجزيرية والرواية والاشراف وأبنود وغيرها.
وكانت السباقات والمراهنات تجرى أمام أعيننا فى كافة الأماكن خارج المسجد.
لم نفكر فيما كان يجرى أمامنا وما إذا كان له ارتباط بصاحب الذكرى أم لا؟
لكون الشيخ عبدالرحيم القنائى أبعد ما يكون عما يجرى حوله. فسيرته العلمية والفقهية لهى أجل وأكبر مما يفعل به مريدوه والمرتزقة من مولده.
أيام قنا ستظل فى ذاكرتنا طول العمر، وستبقى أماكنها خالدة فينا لارتباطها بذكريات وفعاليات يصعب أن تمحى من ذاكرتنا.
وبعيدا عن سكنانا فى المدينة كان لنا اصدقاء وأقارب واصدقاء يعيشون خارجها أمثال عبدالرزاق بدوى وأخوه سيد بدوى ومعهم احمد حجاج ابوالقمارى وهناك احمد بصرى وخالد حسن ويوسف احمد حسين واحمد الشورى ومحمد محمود عبدالرحيم، واصدقاء كثر غيرهم من مدن قنا المختلفة واسوان والبحر الاحمر..