الدكتور أحمد عبد الدايم يكتب: شغفي بالقراءة والبحث

نشأت محبا للقراءة بحكم تعلمى للقرآن الكريم وبحكم رحلتي بين المكتبات والمعلومات التي كنت أحاول أن أجد فيها إجابات حول الأسئلة التى تدور داخلى.
وكانت قلة المعلومات، وعدم وجود مكتبات كبيرة تجد فيها كل ما تحتاجه، يمثل عبئا كبيرا على شخص مثلى يحاول أن يفهم ما يدور فى بلده وما حولها.
كانت مكتبات قنا رغم قلتها توفر لى مناخا جيدا أحسن من أرمنت لتنشئة باحث وإعداده.
وكانت مكتبة كلية الآداب والتربية ومكتبة دار المعارف وبيوت الثقافة تسد بعض الرمق فى المعارف التى احتاجها.
كنت أحلم بمكتبة كشاكلة المكتبة التى يتحدث عنها الدكتور وفاء محمد على أو كتلك التى يطالبنا بها الدكتور كمال حسن.
كنت شغفا بقراءة كل كتب التاريخ بشتى جوانبها وبكتب الأدب والشعر والرحلات والمذكرات وعلوم اللغة والحديث والتفسير.
وكانت كتب مناهج البحث قليلة لا تسد رمقا مما نحتاجه أو نطلبه.
لم يكن هناك إلا كتابين عندنا فى مكتبة آداب حول هذا الموضوع فى فترة الثمانينات، ولم تكن هناك أي مترجمات حول الموضوع برمته.
اعتقد أن الكتابات فى منهج البحث التاريخى كانت قليلة للغاية فى تلك الفترة، ولم تكن بوفرتها الآن.
كنا نغزل بحوثنا بقدر ما نجد من كتب ومراجع التى هى بالأصل قليلة جدا.
وحينما كنت أجد كتابا جادا وموثقا كنت أغير من صاحبه، وأتساءل من أين أتى بكل تلك المراجع البعيدة عن متناول اليد فى قنا؟
وكنت كلما أجد وثيقة أو مصدر أو تقرير فى مرجع أتمنى لو كانت لدينا كل تلك المصادر لنتعرف، مثلما تعرف المؤلف نفسه، على تلك المعلومات بحالتها الأولى.
كم كنت أتمنى أن أرى رؤوف عباس وعاصم الدسوقى وأحمد عزت عبدالكريم وشفيق غربال وعبدالماجد وعبدالعزيز نوار وأحمد عبدالرحيم مصطفى ومحمد أنيس وعبدالفتاح عاشور وغيرهم الكثير.
ارتبطت وأصدقائي بالكثير من تلك المؤلفات، وتمنينا أن نرى أصحابها ونتحدث معهم وجها لوجه.
والسؤال الذى كان يطاردنى دومًا: متى أذهب إلى القاهرة مدينة العلم والمعارف التى يعيش بها هؤلاء الناس؟
ارتبطت بالقاهرة معرفيا قبل أن أراها على أرض الواقع.
كنت أعيش مع أبطالى من صناع الأحداث التاريخية حسبما أتصورهم.
وقد تنوع هؤلاء الأبطال من القديم إلى الحديث.
من خوفو وأحمس إلى عصر النبى صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وملوك الأمويين والعباسيين وسلاطين بنى عثمان.
عشت فى قلب الكشوف الجغرافية وعصر النهضة مرورا بالعالم الجديد لبطن إفريقيا والعالم العربى.
عايشت محمد على ومسيرة أبناءه من بعده، ومع نابليون وفولتير وشكسبير وماركس والامبراطورة فيكتوريا وهتلر وتشرشل وديجول وعبدالناصر وأنور السادات.
نسجت قصصا فى خيالى حولهم مما ضنت به المراجع أو لم تتوفر فى مكتباتنا.
وكانت الصحافة تغطى لنا النقص الذى نجده فى المكتبات.
حيث كانت تقدم أحيانا تحليلات تاريخية عميقة وتقدم شخصيات وتطرح أفكار كنت فى حاجة للاشتباك معها.
ارتبطت بجريدة الأهرام بدرجة كبيرة، بحيث كانت عشقى وغرامى.
عشت مع كتابها وحفظت أسماءهم وخالفتهم واتفقت معهم.
وكان عم أبوعلى ابن قريتى وبائع الجرائد الأشهر فى طول القرية وعرضها يمثل الملاذ الذى يمدنا بالصحف ويأتى بالاهرام إلى منزلى حينما لا أكون فى المدينة وأحضر الصحيفة معى.
وكان كل المثقفين فى قريتى والقرى المجاورة يعرفون أبوعلى ويعرفهم، كان يأتى إلينا بالجرائد والصحف لبيوتنا، ليس عن حاجة مادية يحتاجها، بل هواية تربت بداخله.
فهو لم ينجب أطفالا ولديه ما يكفيه كشخص.
ومن ثم نذر نفسه لمهمة كى يقوم بها.
أبوعلى اذا لم يأت لنا بالجريدة فى يوم من الأيام، كنا نشعر بأننا انقطعنا عن العالم، فهو همزة الوصل بيننا وبين بقية الوطن والعالم.
ومن ثم هو مصباح التنوير وقاطرة من قاطرات الثقافة فى أقاصى الصعيد.
حكاوى عم أبوعلى مع الصحافة والصحف بدأت مع حبة لجريدة البعكوكة، لذا كان شخصية ساخرة يقرأ الصحف قبل أن يوزعها على قرائه.
يجوب القرية من البحر إلى الجبل، وبطول القرية وعرضها، وهو ليس بحاجة لمال أو زاد.
أحيانا أشعر أن أبوعلى كان يعيش لقضية كان يؤمن بها، وهو تثقيف أهل القرية.
وأحيانا اختبر هذا الأمر: فأقول له فلانى الفلانى سأل عليك لترسل له جريدة.
فكان يرد بأن هذا الشخص لا يستحق الذهاب إليه، فهو ليس بمثقف ولا يعرف شيئا عن الثقافة.
وكل ما يعنيه أن يقال أنه يشترى الجرنال.
اعتباره لمثل تلك الشخصيات بأنها مدعية الثقافة كان يثير البعض ويستفزهم فيناصبونه العداء ويناصبهم.
وأحيانا إذا أعجب بثقافة البعض ينسى أن يأخذ ثمن الجرنال لمدة شهر.
كان عم أبوعلى فى تقديرى يجرى عملية فرز ثقافى فى البلد، تختلف عن فرز القرية الاجتماعى والاقتصادى.
فرز ابوعلى لم يخطئ أبدا، فكل الذين قدمهم وحباهم بالحب لم يخيبوا ظنه فى مجال الثقافة والوعى.
كان فرز ابوعلى فرزا موضوعيا وحياديا، وليس فرز قبلى أو طبقى.
يحكى لك تاريخا عن القرية ومثقفيها ورجالاتها واعيانها وشيوخها بصورة لا تجعل منه مقربا لكل الناس.
رحم الله عم ابوعلى واسكنه الله فسيح جناته، وجعلنا نذكره دائما بالخير لنترحم علي هذا الرجل العظيم الذى بنى قريتنا على مهل، وساهم فى تثقيفها وصنعها فى وقت راح الناس يكنزون المال والفضة ويحشدون لها.